{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}:المراد بالخلق هو الإيجاد والإحداث، أي إبراز الشيء من العدم إلى الوجود. وذلك مثل: خلق الحياة في الكائنات الحية على ظهر الأرض التي بث فيها من كل دابة، وأنبت فيها من كل زوج بهيج. ومثل خلق الإنسان العاقل، الذي لم يكن شيئا مذكورا ثم كان، وهو ما نبه عليه القرآن في أول سورة أنزلت على رسول الله...
د. يوسف القرضاوي
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}:
الله تعالى هو الخالق لكل شيء، وقد أشار إلى ذلك منذ أول آيات أنزلت من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2].
وهنا تشير الآيتان اللتان معنا إلى خلق تكملة التسوية، وتقدير تكملة الهداية، فهي حقائق كونية أربعة تدل على وجود الله تعالى، وعلى تأثيره وتدبيره لهذا الكون الفسيح، الذي خلق كل شيء فيه فسواه، والذي قدر كل شيء فهداه.
لهذا وجدنا القرآن يشير إلى التسوية بعد الخلق، كما في خلق آدم أبي البشر، فقد خلقه من طين، ثم سواه لينفخ فيه من روحه، ويُسجِد له ملائكته، كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].
وعني القرآن بذكر التسوية في مخلوقات الله الكثيرة، ومنها الإنسان: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6-8].
وعرض ذلك في سورة السجدة، حين حدثنا عن خلق الإنسان: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:7-9].
كما حدثنا القرآن عن الهداية العامة التي جعلها الله مكملة للتقدير الإلهي، الذي قال الله فيه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2].
فهذا التقدير الإلهي العجيب الشامل يُتمه ويُكمله هداية الله العامة الشاملة أيضا، وهو ما عبر عنه قول الله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
الدلائل الكونية الأربعة:
وقد تحدثنا في كتابنا (وجود الله) عن هذه الدلائل الأربع، التي أشار الله إليها في كتابه المعجز وفصّل في آثارها، لتدل على وجود الله تعالى، الذي أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء صنعه، ولا يوجد مخلوق كبر أو صغر إلا ولله فيه آية دالة على أنه الخالق المصور.
دلالة الخلق على الرب الأعلى:
المراد بالخلق هو الإيجاد والإحداث، أي إبراز الشيء من العدم إلى الوجود. وذلك مثل: خلق الحياة في الكائنات الحية على ظهر الأرض التي بث فيها من كل دابة، وأنبت فيها من كل زوج بهيج. ومثل خلق الإنسان العاقل، الذي لم يكن شيئا مذكورا ثم كان، وهو ما نبه عليه القرآن في أول سورة أنزلت على رسول الله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2].
ومثل خلق السماوات والأرض، وهو أكبر من خلق الناس، وقد دلنا علم الفلك على عظم الأجرام العلوية، وسعة المسافات بينها، حتى إنها لتقاس بملايين السنين الضوئية.
تُرى .. من خالق الحياة على هذه الأرض؟ ومن خالق هذا الإنسان العاقل المفكر؟ ومن خالق هذا الكون كله بأرضه وسمائه؟ هل وُجدت الحياة ووُجد الإنسان، ووجدت المخلوقات العلوية والسفلية وحدها بلا واجد؟ أو لابد لها من خالق أوجدها؟ ومن هو؟
ماذا يقول الملحدون في ظهور الحياة لأول مرة على كوكب الأرض؟
إن ظهور الحياة – المادة الصماء- وضع الماديين أمام مشكلة لم يجدوا لها حلا ولا تفسيرا إلا على نحو ما قال الشاعر:
وبات يقدح طول الليل فكرته***وفسر الماء بعد الجهد بالماء
من ذلك ما قاله بعضهم: إن الحياة انتقلت إلى الأرض من العالم العلوي عن طريق نيزك من النيازك الهائمة في الفضاء ولكن السؤال يبقى: ومن خلق الحياة هناك في عالم الأفلاك، أو في أي كوكب من الكواكب؟
وقال بعضهم: إن المادة فيها طبيعة الحياة، بعد تركيب وتناسق خاص. ولكن السؤال يبقى أيضا: ومن ركبها ونسقها وهي مادة عمياء صماء؟
"ولا يسع العقل في أمر ظهور الحياة إلا أن يأخذ بأحد قولين:
فإما أنها خاصة من خواص المادة ملازمة لها، فلا حاجة بها إلى خالق مريد"
"وإما أنها من صنع خالق مريد يعلم ما أراد".
فإذا كان العالم كله مادة ولا شيء غير المادة، لزم من ذلك أن المادة أزلية أبدية، لا أول لها ولا آخر، وأنها موجودة منذ الأزل بكامل قواها، وجملة خصائصها، وأن خصائصها ملازمة لها حيث كانت، بدون تفرقة بين المادة في هذا الكون من الفضاء، والمادة في غير هذا المكان.
ولا معنى إذن لظهور الحياة في كوكب الأرض دون كوكب، وفي زمان دون زمان، ولا معنى لأن تظل خصائص الحياة بلا عمل ملايين الملايين من السنين، بل فوق ملايين الملايين من حساب السنين، ثم تظهر بعد ذلك في زمان يحسب تاريخه بالآلاف، ولا يقاس إلى الأزل الذي لا يدخل الحساب.
فلماذا تأجلت خصائص الحياة كل هذا الزمن الذي لا يدخل في حصر ولا إحصاء؟ ولماذا اختلف التوزيع والتركيب في أجزاء الفضاء وآماد الزمان؟ ولماذا جاءت هذه الحياة مصادفة، بكل ما يلزم لها من تدبير، وليس للمادة الصماء تدبير؟
على العقل أن يبدي أسبابه لترجيح القول بهذه الفروض على القول بظهور الحياة من صنع خالق مريد. ولا نعرف أسبابا لترجيح الفرض العسير على الفرض اليسير.
والفرض اليسير هو الفرض الآخر، وهو أن الحياة ظهرت من صنع خالق مريد.
إن هذا الفرض اليسير هو الذي يحل لغز ظهور الحياة من المادة الصماء، أو بعبارة أخرى خروج الحي من الميت، ويحل لغز الوجود كله، حين يستجيب المرء إلى صوت البداهة والعقل، ويرد الخلق والأمر كله لله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}؟[الأنعام:95].
{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس:36].
هذا الدليل يسمى دليل "الخلق"، أو دليل "الإبداع"، أو دليل "الاختراع".
وقد يوجد في صورة أخرى فيسمى دليل "الحركة" سواء أكانت الحركة بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان، أم الانتقال من حال إلى حال، أو الحركة بمعنى الانتقال من حيّز الإمكان إلى حيز الوجود.
وفحوى هذا الدليل: أن كل متحرك لابد له من محرك، وأن هذا المحرك لابد أن يستمد الحركة من غيره. وهكذا إلى أن يقف العقل عند محرك أزلي قائم بذاته، غير محتاج إلى غيره، وإلا لزم الدور أو التسلسل إلى ما لا نهاية، وكلاهما باطل، وذلك المحرك هو الله.
وقد عرضه المتكلمون في صورة ثالثة، وسموه دليل "الحدوث".
قالوا: العالم متغير، وكل متغير حادث، وكل حادث لابد له من محدث. ولابد أن يقف العقل عند محدث غير حادث، وإلا للزم الدور والتسلسل المحالان. وذلك المحدث هو الله. والعلم الحديث يقر بحدوث العالم، ويرجع حدوثه إلى ملايين يقدرها من السنين.
وعرضه الفلاسفة الإسلاميون – كالفارابي وابن سينا- في أسلوب آخر وسموه دليل "الإمكان".
وفحوى هذا الدليل أن الموجودات – حسب القسمة العقلية إما أن تكون واجبة الوجود جميعا – وواجب الوجود هو الذي لا يتصور العقل عدمه، لاستلزام المحال- وإما أن تكون ممكنة الوجود ، على معنى أنها يمكن أن توجد وألا توجد، فليس هناك علة لذاتها تقتضي وجودها أو عدمه، وإما أن يكون بعضها واجبا وبعضها ممكنا.
ومحال أن تكون كلها واجبة الوجود، لأنها بين متحركة تحتاج إلى محرك، وبين مركبة تحتاج إلى علة لتركيبها، ولابد أن تسبقها أجزاؤها.
ومحال أن تكون كلها ممكنة الوجود؛ لأن الممكن يحتاج إلى علة تخرجه من حيز الإمكان إلى حيز الفعل.
بقي الفرض الثالث: وهو أن يكون بعضها ممكن الوجود وهو هذا العالم، وبعضها واجب الوجود وهو الله، وهو السبب الأول لوجود هذا العالم. ومن المحال أن يكون مسبوقا، لأن الذي يسبقه يكون أولى بالوجوب. (يتبع)