عمار جعيل الإدارة
عدد الرسائل : 1223 العمر : 57 تاريخ التسجيل : 21/11/2007
| موضوع: إمام مدرسة الحديث : مالك بن أنس ـ الجزء الأول السبت أكتوبر 31, 2009 7:17 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أيها الأفاضل : السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ إمام دار الهجرة وأحد العلماء العظام والأئمة الأعلام المتبوعين الذين انتشر علمهم في الآفاق، وذاع صيتهم في كل رواق، أحد الذين كتب الله تعالى لمذهبهم البقاء وحسن القبول، أحد الصالحين الذين تتنزل عند ذكرهم الرحمات، ولنا فيهم أحسن القدوات.
مولد وبشارة:
وُلِد الإمام الفذ الكبير الحجة مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني عام (93هـ)، وهي السنة التي مات فيها أنس بن مالك صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فعوض الله تعالى الأمة بهذا الإمام خيرًا.
وجاء في فضله حديث صحيح رواه أهل السنن وأحمد: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة )) ، وهذا الحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال الذهبي: " هذا حديث نظيف الإسناد غريب المتن " ( سير أعلام النبلاء 8/50 ) ، وصححه ابن حبان وغيره.
وقد حمل طائفة من أهل العلم منهم ابن عيينة وابن جريج هذا الحديث على الإمام مالك، وأنه المقصود ببشارة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بأنه سوف يكون من أعلم العلماء، وأنه عالم المدينة المشار إليه بالبنان، وستضرب إليه أكباد الإبل من كل مكان في الدنيا.
وكان مالك بن أنس طويلاً ، عظيم الهامة ، أصلع ، أبيض الرأس واللحية ، شديد البياض إلى الشقرة ، وكان لباسه الثياب العدنية الجياد ، وكان يكره حلق الشارب ، ويعيبه ، ويراه من المثل .
علم وشهادة:
وقد روى هذا الإمام عن شيوخ كثيرين من التابعين يعدّون بالمئين، يقول عنه الشافعي ـ رحمه الله ـ : " إذا جاء الأثر فمالك النجم " ( الجرح و التعديل 1/60)
ويقول عنه ابن معين ـ رحمه الله ـ : " كان مالك من حجج الله على خلقه " ( سير أعلام النبلاء 8/94
كان ـ رحمه الله ـ محدِّثًا، أخذ عنه الحديث أمم من الناس، وكتابه العظيم "الموطأ" هو كما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ : " ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك " الجرح و التعديل 1/12 ) .
وإنما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ هذه الكلمة إذ لم يكن صحيح البخاري وصحيح مسلم موجودين بعد في أيدي الناس، فكان الموطَّأ في وقته هو أصح كتب الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وقال الشافعي أيضاً : " مالك وابن عيينة القرينان ، لولاهما لذهب علم الحجاز "( الجرح و التعديل 1/12 )
وقال الشافعي أيضاً : " إذا جاء الحديث عن مالك فشدّ يدك به " وقال سفيان : " مالك إمام " التاريخ الكبير للبخاري ( 7/310 )
وقال يحيى بن سعيد القطان : " مالك أمير المؤمنين في الحديث " ( تزيين الممالك للسيوطي ) .
وقال ابن وهب : " لولا مالك لضللنا " ( التمهيد لابن عبد البر 1/62 )
وقال ابن قلابة : " كان مالك أحفظ أهل زمانه " ( تزيين الممالك للسيوطي ) وعن ابن أبي أويس قال سمعت خالي مالك بن أنس يقول : " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ، لقد أدركت سبعين ممن يقول قال فلان قال رسول الله r عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئاً ، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكن به أميناً ، لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن ، وقدم علينا ابن شهاب الزهري فنزدحم على بابه " ( التمهيد لابن عبد البر 1/66 )
وكان فقيهًا، ملأ مذهبه الآفاق، وانتشر في المغرب والأندلس وكثير من بلاد مصر، وبعض بلاد الشام واليمن والسودان، وبغداد والكوفة وبعض خراسان، وبعض نواحي الجزيرة كالأحساء وغيرها؛ ولا زال مذهبه أحد المذاهب الأربعة الشهيرة المتبوعة إلى يومنا هذا.
رحلته - رحمه الله - في طلب العلم:
طلب الإمام مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا قبل بلوغه الثامنة عشرة، وجلس للإفادة في مجلس العلم وعمره إحدى وعشرون سنة، وحدَّث عنه آنذاك جماعة وهو في مقتبل شبابه، وفي آخر خلافة أبي جعفر المنصور رحل الناس إلى مالك من الآفاق وازدحموا عليه حتى آخر عمره.
وهذا يظهر لنا البيئة التي تربى فيها شاب مثل الإمام مالك في عهود السلف الصالحين، وفي ذلك فوائد منها:
أولا: مكانة طلب العلم في بيئة المدينة النبوية، فكان الشاب الصغير ينشأ وهو يرى الناس يشيرون إلى الشيخ بالبنان، فإذا أقبل أطرقوا رءوسهم وأخلوا له الطريق وسلموا عليه وعظموه؛ لأن هذا العالم يحمل بين جنبيه هداية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلم الصالحين؛ فهم لذلك يوقرونه ويعظمونه، ويرون أن توقيره من توقير دين الله وتعظيمه؛ فينشأ الصغير وهو يحمل الود والإجلال والإكبار لهذا العالم، وينظر إليه على أنه هو الأسوة والقدوة، ويتمنى أن يكون في مثل مقامه ومنزلته. قال عبد الله بن سالم الخياط في وصف الإمام مالك ـ رحمه الله ـ:
يـأبـى الجوابَ فما يُراجعُ هَيبةً والـسـائـلونَ نواكِسُ الأذقان
أدب الـوقـار وعزُّ سلطانِ التُّقى فهو المطـــاع وليسَ ذا سُلطان
فيتلقى الصغير -عمليًا- دروس الإجلال والإكبار للعلماء والفقهاء، وأهل الدين والعلم والدعوة والجهاد.
قال الإمام الشافعي تلميذ الإمام مالك -رحمه الله- " .. فرأيت من مالك بن أنس ما رأيت من هيبته وإجلاله للعلم ، فازددت لذلك حتى ربما كنت أكون في مجلسه فأريد أن أصفح الورقة فأصفحها صفحاً رقيقاً ، هيبة له ؛ لئلا يسمع وقعها " ( مناقب الشافعي للبيهقي ( 2/144 )
ثانيًا: كانت الظروف والأسباب في عهود السلف الصالح مهيأة للتعليم، ولم يكن ثمة عوائق أو صوارف تحول بين الإنسان والتعليم، فالعالم أو طالب العلم -ولو كان في سن الرابعة عشرة أو دونها- إذا أتى إلى المسجد وجد الأبواب مفتوحة، والفرص مهيأة، والمجالس قائمة للتعلم، فإذا ذهب إلى السوق وجد الأسباب نفسها موجودة، فإذا ذهب إلى البيت وجد من تحريض الوالدين والإخوة والأهل ما يكون خير معين له على مواصلة الطلب والتحصيل؛ فكأن المجتمع كله يقول لهذا الشاب بلسان الحال والمقال: تعلم العلم ونحن وراءك، نشد أزرك، ونساعدك ونؤيدك.
وقد كان للإمام مالك مع أمه قصة معروفة في سيرته: " وذلك أنها كانت تحرضه على طلب العلم، وتنفق عليه من الأموال الموجودة لديها؛ حتى يستغني عن التجارة، فإن انشغال الفكر بتحصيل الرزق يضعف استجابته للعلم " ( الجامع للخطيب البغدادي ( 2/384 ) ، وذلك كما يقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ : " لو كلفت شراء بصلة لما فهمت مسألة " ( تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (ص70-71)) وكلام الشافعي ـ رحمه الله ـ هذا كالرمز، وإلا فإن أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويبيعون ويشترون، ويزرعون ويجاهدون ويتعلمون، ومع ذلك كانوا هم أعلم العلماء. وإنما المقصود أن المجتمع يجب أن يكون سندًا ومعينًا لطالب العلم، منذ نعومة أظفاره وصغره في تحصيل العلم وتهيئة أسبابه
ــــ يتبع إن شاء الله بالجزء الثاني ــــــــ .
| |
|