[size=29]
سيرة عطرة لشاب أبكى الصحابة يوم مماته كما أبكاهم يوم إسلامه ..
وفيما بين إسلامه ووفاته سطّر بحروفٍ من نور سيرةً أعطر من الشذا الفياح ، وأسطع نوراً من القمر المنير . وجعل في ثناياها دروساً عظيمةً تكتب بالكلمة والموقف : درس استعلاء الإيمان على كل جوانب الأرض .. ودرس استعصاء اليقين على كل مجابهة الباطل .. ويسطر فيما بين ذلك قوة الإيمان ، وفتوة الشباب ، وحصافة الداعية ، وثبات المسلم ، وقوة الحجة ، وإصابة الهدف .. ويرسم فيما وراء ذلك كله نموذجاً من نماذج التربية المحمدية التي تربى عليها جيل الصحابة على يد المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وجدير بنا أن نحني رؤسنا إعظاماً وإجلالاً لهذه السيرة كما أحنى كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤوسهم ، وجعلوا أبصارهم في الأرض إجلالاً وإعظاماً لهذا الصحابي الجليل .
إنه ( مصعب بن عمير ) الشاب المدلل الذي انتقل من طورٍ إلى طور ، ومن حياة إلى حياة ، ومن غاية إلى غاية ، ومن هدف إلى هدف ، ومن كل ما كان له صلة بالجاهلية إلى كل ما له تعلق بالإسلام .
فلنقف مع صفحات هذه السيرة ، ولنقف مع هذا الشاب الذي كان استشاهده في يوم أحد من شهر شوال في العام الثالث من الهجرة النبوية الشريفة كان لمصعب بن عمير نشأة أولى اجتمع فيها عراقة النسب ، وعظمة الجاه ، وسعة الرزق ، ورقة الحياة ، وكان قد جمع كل ما يجمعه الشاب الذي يحوز على المال الوفير ، والأبوين الحنونين الذين يرعيانه ويكرمانه ، ويوافقانه فلا يخالفانه ، ويعطيانه فلا يحرمانه ، ويفتخران به في كل مجلس ، ويحبان أن يرايانه في أحلى صورة ، وأبهى حلة ، وكان في عراقة النسب من بني عبد الدار من أصل قريش وأمومتها الذين كانت لهم مناقب ومفاخر في خدمة البيت الحرام ، وكانت عندهم السقاية ، وكان إليهم أمر دار الندوة ، وكان فيهم عظمة وحسب ومناصب و أدوار عظيمة .
وكان مصعب من هذا كله ، وكان في هذا كله ، وكانت أمّه - على وجه الخصوص - كثيرة المال ، تغدوه بأحسن الطعام ، وتلبسه أرق الثياب ، وتعطّره بأجمل وأعطر العطور .. وكانت تتباهى به بين شباب مكة ؛ حتى عرف مصعب رضي الله عنه وأرضاه بأنه أعطر أهل مكة ، وكان يُعرف إذا مرَّ في طريق ومضى أنه مرَ منه ؛ لما يرى أو لما يُشمُّ من أثر ريحه بعد مضيه .
وكان في هذه الصورة من النعيم العظيم ، ومن الترف العنين ، يتنقل في مكة على هذه الهيئة ، ويعرف بهذه الصورة .. حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك عندما دخل مصعب في الإسلام من بعد ، فكان مما قاله عليه الصلاة والسلام : ( ما رأيت بمكة أحسن لمةً ، ولا أرق حلةً ، ولا أنعم نعمةً من مصعب بن عمير رضي الله عنه .. ) .
أي ليس في مكة أحسن لمةً - أي الشعر الذي يغطي الجبهة - ولا أرق حلة ، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير ؛ دليلاً على عظيم الترف والرقة ..
هكذا عاش مصعب نعومة حياته الأولى ، وبدايات فتوته وشبابه …. وكانت الجاهلية في ذلك الوقت بأعرافها ، وأوضارها وشهواتها وزيغها ، في هدوء وسكون ؛ حتى أظهر الله عز وجل الدين الجديد ، ونبئ محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، وأشرقت الأرض بنور الإيمان ، واتصلت حبال هذه الأرض بأسباب السماء ، وانبثق الوحي يلقي في صدر محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة الخاتمة التي تشمل هداية البشرية وصلاحها في كل زمان ومكان .. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
فجاء الدين الجديد والجاهلية غارقةٌ في ظلامها ، ساترة في غيها ، مقيمة على ظلمها ، متدنسة بشهواتها وملذاتها ، غارقةٌ في أوضارها وأرجاسها وأدناسها ، مقذرة لنعراتها وعصبياتها ، مؤكدة على طبقاتها ومنازلها ومراكبها ، تفرّق بين الإنسان والإنسان ، وتفرق بين حر وعبد ، وتسجد لأصنامِ من حجر تصنعها .. فماذا صنعت الجاهلية أمام هذا النور العظيم الذي أشرقت له الأرض من بعد شرقاً وغرباً ؟
لقد بدأ الصراع بين الجاهلية والإسلام ، وهذه سنة الله عز وجل في الحياة ؛ فإن الباطل لا يمكن أن يبقى ، ولا يمكن أن يحيى في وجود الحق !
وإن الظلام لا يمكن أن يقيم ، ولا أن يبقى في وجود النور ، ومن ثم لا بد من صراع الظلام بالنور ، ولا بد من اعتراك الحق بالباطل ؛ حتى يُحق الله الحق بكلماته ، ويبطل الباطل بقدرته سبحانه وتعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين } ، { وإن العاقبة للمتقين } .
ولكن الطريق مفروشٌ مملوءٌ بالأشواك ، مليءٌ بالعقبات ، يمتحن الله - عز وجل - به أهل الإيمان ، ويثبت به أهل اليقين : { لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } .
سنة من سنن الله عز وجل : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } .
وبدأ مصعب - رضي الله عنه - يرى ملامح هذا الصراع ، يسمع الحوار الحائر في أندية قريش ، ويسمع الرأي الجائر من كبرائها وطغاتها ، ويرى بعد ذلك الظلم السافر ، والبغي الفاجر ، والعذاب المستطير ، والحرب والشر الذي لم تنتهي منه قريش ؛ حتى كتب الله النصر لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وأذلّ طغاة الكفر والشرك ، وأفنى كبراء الجاهلية ؛ حتى ذلت الأعناق ، وخضعت الرقاب ، ثم من بعد ذلك - وفي أثنائه - استجابت القلوب ، فكان مصعب يرى ذلك ، وتجلت أمامه في مقابل ذلك صور الثبات الرائع ، والشموخ العالي لأهل الإيمان .
رأى بلالاً يُعذّب في صحراء مكة ، ودويُّ " أحد أحد " يملأ أذنيه .
ورأى خباب بن الأرت يشوى بالسياط ، ويُكوى بالنار ، وهو ثابتٌ على الإيمان ، وكان ذلك كله يختبر في رأسه ، ويتفاعل مع نفسه ، ويتردد في قلبه ، وإذا به يفكر وينظر ، ويتأمل ثم ينشرح صدره للإسلام ، ويشرق في قلبه نور الإيمان ، ويسمع سمعاً خفيفاً من همسٍ يتناجى به قليل من الناس : أن محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان مصعب يعرف سيرته - كما كانت مكة كلها تعرف سيرة الصادق الأمين - وكان يعرف رجاحة عقله يوم حكّمته مكة كلها - بقبائلها وزاعماتها - في وضع الحجر الأسود في مكانه من البيت .. وكان يعرف محمداً - صلى الله عليه وسلم - يوم ترفّع عن الجاهلية ، فلم يشرب شربة خمر ، ولم يجلس في مجلس لهو ، ولم يسجد لصنم قط صلى الله عليه وسلم .
سمع أن محمداً يجتمع بأصحابه - ممن استجاب لدعوته - في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، فتوجه مصعب يقوده قلبٌ أشرق بالإيمان ، ونفسٌ تعلقت باليقين ، وعقلٌ اقتنع بالحق وأيقن به .. توجّه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم ، يسير في الظلام ، ويُسرُّ بمسيره ، ويخفي توجهه حتى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه النفر القليل الذين لم يكن عددهم يتجاوز أصابع اليدين ، وأعلن هذا الشاب إسلامه بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم - وقد رأى مصير من دخل في هذا الدين ، وقد عرف عاقبة من اتبع محمداً الأمين صلى الله عليه وسلم - وكان يدرك تماماً ؛ لا عن مجرد قول ، بل عن رأي يقين ، ورأي حقٍ رآه بعينه ، وشاهده بنفسه : أن الأمر ليس بهيّن ، وأن العاقبة ليست سهلة ، وأن المستقبل ليس مفروشاً بالورود ، لكنه الإيمان إذا ملأ القلب واليقين ، وإذا شاء في النفس ، والقناعة إذا استولت على العقل ؛ فإنها بإذن الله عز وجل تكون أقوى من كل صعبٍ ، وأرسخ من كل مواجهة ، وأمضى - بإذن الله عز وجل - إلى المستقبل بثقة ويقين بنصر الله ، وأملاً ورجاءً في ثواب الله ، ورسوخٍ وثباتٍ على منهج الله .
فكّر مصعب في النعيم ، وفكّر في الجاهلية وما ستواجهه به ، وفكّر أكثر وأكثر في أمّه التي كان لها معه شأن عظيم .. ومع كل هذا التفكير غلب إيمانه كل هذه العوائق وكل هذه المصاعب : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
وكان مصعب يعرف أنه باختياره هذا الطريق قد ودع الترف ، وقد هجر الدعة والراحة ، وأيقن بقول الحق سبحانه وتعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } .
وعجباً أن مصعباً رضي الله عنه قد صدقت فيه هذه الآية ، وكان قد صدق فيه وفي أصحابه ، ونزل فيه وفي شهداء أُحد{: من الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } .
فكان صادقاً في إسلامه ، وكان صادقاً في ثباته ، وكان صادقاً في شهادته رضي الله عنه وأرضاه ؛ حتى كان مضرب مثلٍ للأغنياء ، ومضرب مثلٍ للفقراء ، ومضرب مثلٍ لمن سلموا من الأذى ، ولمن نالوا أشد وأقسى أنواع الأذى .
فهذا عبد الرحمن بن عوف - كما في صحيح البخاري - كان صائماً يوماً من الأيام ، فأوتي له بطعام الإفطار ، وكان فيه صنفين من الطعام ، فطأطأ عبد الرحمن بن عوف رأسه ، وجرت دموعه على خدّه وبكى ، فقيل له : ما يبكيك يا عبد الرحمن ؟ ما يبكيك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : ذكرت مصعب بن عميرِ مات يوم مات ، ولم نجد ما نكفنه به إلا برده ، إذا غطينا رأسه بدت قدماه ، وإذا غطينا قدماه بدا رأسه ، وإني أخشى أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا .
أبكاهم في مماته وبعد مماته رضي الله عنه وأرضاه .
وهذا خباب بن الأرت زعيمٌ من زعماء المعذبين ، والذي ظل أثر التعذيب في ظهره حتى وفاته ، وكان يُسأل عن ما لقي من التعذيب حينما امتد به العمر ؟ فيقول : " أسلمنا وجاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمنا من لم يرى من ذلك شيئاً - لم يرى أثراً ولا ثمرةً ولا نعيماً ، وإنما مضى إلى الله عز وجل شهيداً قبل أن يفتح الله على الإسلام - منهم مصعب بن عمير مات يوم مات ، ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إذا غطينا رأسه بدت قدماه ، وإذا غطينا قدماه بدا رأسه " .
ثم يذكر خباب بعد ذلك ما فتح الله به عليهم .
وكما قال غيره من الصحابة ، منهم عتاب بن أسيد عندما تذكر حالهم الأول ، وما انتهى بهم المضاف ، قال : " وما منا اليوم إلا وهو أمير على مصر من الأمصار ، أما مصعب فقد مضى إلى الله عز وجل وما زال الإسلام محارباً محاصراً ، وما زال المسلمون لم يتجاوزوا المدينة التي كان لمصعبٍ أثرٌ عظيمٌ في فتح قلوب أهلها ، وفي إسلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها " .
لننظر إلى ما واجهه مصعب بعد أن قرر هذا القرار العصيب ؛ حتى نعرف أثر الإيمان ، وندرس ونتلقى من مصعب - الشاب المنعم المدلل المترف - أعظم دروس الإيمان ، نسأل الله عز وجل أن يزيد إيماننا .