حكايتان عن المجاوي والونيسي
حدّثني تلميذ للشيخ عبد القادر المجاوي أنّ هذا الشيخ رأى ذات يوم بيده رسالة محمّد عبده في التوحيد، فانتهره لنظره فيها، وأغلظ له القول في مؤلّفها.فأمهله هذا التلميذ ثمّ راجعه مرّة أخرى فيما سمع منه، فأثنى له على الشيخ محمّد عبده، واعتذر له عمّا أسمعه فيه أوّلا، بمجاراة العامّة التي كانت لذلك العهد لا تذكر بالشيخ عبده إلا الإلحاد، والإفساد في الدين.وحدّثني آخر عمّن حضر ((زردة)) بكدية عاتي، من مدينة قسنطينة مع الشيخين عبد القادر المجاوي وحمدان الونيسي، أنّهم كانوا في بيت كتّان نسمّيه القيطون (1) فقام أحدهم متلهّفاً أن يفوته طعام الزردة وبركتها.فقال له الشيخ حمدان: أيّ بركة فيها، إننّ طعامها حرام، ومجيئنا إليها حرام.هذان الشيخان هما من شيوخ شيوخنا، وهما أشهر شيوخ الجزائر لعهدهما، ومن هاتين الحكايتين عنهما نرى كيف يضيع الدين وينمو المنكر.وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: ((إذا التمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقّه لغير الدّين، ظهرت البدع)). رواه ابن وضّاح في رسالة البدع والنّهي عنها (ص39) ولقد نصح من قال:ولدتك، إذ ولدتك، أمّك باكيا **** والقوم حولك، يضحكون سرورافاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا **** في يوم موتك، ضاحكا مسرورا .اهـ (الشرك ومظاهره ص 58-59)(1) أي: خيمة.الوليُّ عند العامّة وعقيدتهم فيه:
أمّا الولي عند النّاس اليوم فهو إمّا من انتصب للإذن بالأوراد الطرقية ولو كان في جهله بدينه مساويا بحماره.وإما من اشتهر بالكهانة وسموه حسب اصطلاحهم ((مرابطاً)) ولو تجاهر بترك الصلاة، وأعلن شرب المسكرات.وإمّا من انتمى إلى مشهور بالولاية ولو كان إباحيّاً لا يُحرّمُ حراماً.وحق هؤلاء الأولياء على النّاس الجزم بولايتهم، وعدم التوقّف في دخولهم الجنّة، ثمّ الطاعة العمياء ولو في معصية الله، وبذل المال لهم ولو أخلّ بحق زوجته وصبيّته، والثقة بهم ولو خلوا بالخرد العين.وبعد فهم المطلوبون في كلّ شدّة، ولكل محتم بهم عدّة.وهم حماة للأشخاص وللقرى والمدن، كبيرها، وصغيرها، حاضرها وباديها.فما من قرية بلغت ما بلغت في البداوة أو الحضارة، إلا ولها ولي تُنسبُ إليه، فيُقال سيدي فلان هو مولى البلد الفلاني.ويجب عند هؤلاء النّاس أن يكون علماء الدين خَدَمَةً لهؤلاء الأولياء، مقرّين لأعمالهم وأحوالهم، غير منكرين لشيء منها، وإلا أوذوا بضروب السُباب، ومُستقبح الألقاب، وسلبوا الثقة بعلمهم، ووشى بهم إلى الحكّام. وذلك حظّ الدعاة إلى السنّة من مبتدعي هذه الأمّة. اهـ(الشرك ومظاهره ص 122-123) العبيدي الميلي:
ولقد أدركتُ بميلة جيلا كلّهُ إعجاب برجل يدعونه ((العبيدي)) وينقلون في مجالسهم أحاديث تصرّفه في الجنون فهذا يقول أخرجه من فلانة وسجنه في زجاجة، وذلك يحدّثك عن إحراقه وتصاعد دخانه، وآخر يروي لك توبيخه لهم وتهديده إياهم. فهذا الحكيم ((العبيدي)) بميلة يكاد يحظى حظوة ذلك ((الحاكم)) العبيدي الميلي في صنعته وإن كان دون شُهرته وكُنتُ أتمنّى أن يُطلعني شيخي على هذا السرّ فحفظني الله من ذلك الشرّ. اهـ (الشرك ومظاهره ص 163-164) صفة العزيمة اليوم:
وصفة العزيمة اليوم عندنا اليوم أن يقرأ القارئ على من يظنّ به مسّ الجنّ بسورة الجنّ غالبا وبيده فتيلة قد أحرق رأسها، يكوي بها أنف المُصاب وقد يدخن له ببخور وقد يكتب له ممّا هو مدوّن في نحو ((شمس المعارف)) (1).وأكثر من يدّعي الصرع بالجنّ النّساء وأكثرهنّ فاجرات، يتّخذن الصرع وسيلة إلى أهوائهنّ في المعروفين بالعزائم.فترى المعزم يتلوا القرآن بلسانه ويهوي إلى مسّ الصريعة بأركانه ويتحرّق لبلوغ أمنيته منها بجنانه.فهو كالجزّار فينا ***** يذكر الله َ ويذبح
مفاسد أصحاب الرقية والعزيمة:
قد احترف أناسٌ -ممّا أصيبوا في مروءتهم بالإفلاس- الرقية بكلّ ما ليس بمشروع والعزيمة بما في نحو كتاب ((الرحمة)) (2) على كلّ مصروع، وأحدثوا في ذلك الأحداث وأرخوا الستائر دون الحرائر والأحداث، وهم بين منحلّ جملة من الدّين ومصرّ على الحرام المهين ولهم قبول عند ضعفة العقول، يزيّن لهم تلك الحال ويُغريهم بالمُضيّ في هذا الضلال: ((يا أيّها الذبن آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وَقودها النّاس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون)). اهـ (الشرك ومظاهره ص 171-172) (1) و (2) من كتب الصوفية في السحر والشعودة.مفاسد الإنتصاب للدعاء:
وقد وُجد في عصرنا من الطرقيين والمرابطين من ينتصب للدعاء ويصرّح بكونه واسطة بين الله وخلقه في جلب المحبوب ودفع المكروه، فإذا رضي عن أحد ضمن له ما يشتهي من حاجات من الدنيا ونعيم الآخرة، وإذا غضب عن آخر توعده بحلول النّقمة، ورضاه وغضبه تابعان لمطامعه فيما في أيدي النّاس.ورأينا من الجهّال المعتقدين في لصوص الدّين هؤلاء من يبذل فوق طاقته طلبا لرضاهم عنه وفوزه بدعوة منهم له، ويشتري ما ينتسب إليهم من شمع وبخور مزايدة بأرفع الأثمان ليقوم ذلك الشيء المُشترى مقام دعوة صاحبه.ففي الإنتصاب للدعاء وسؤاله ذريعة إلى الشرك والعياذ بالله.(الشرك ومظاهره 191-192)فشو دعاء غير الله:
ولقد فشا في المسلمين دعاء غير الله على شدّة إنكار كتابهم له وتحذير نبيّهم منه، حتى صار الجهلة ومن قرُب منهم يؤثرون على دعاء الله وحده.والإستشهاد لذلك بالحكايات عنهم واستيعابها ممل معجز، فلنقتصر على حكاية واحدة.الحكاية العاشورية:
ففي سنة سبع وأربعين، قُتل شيخنا محمّد الميلي رحمه الله، فأتيت من الأغواط (1). وجاء للتعزية الشيخ عاشور صاحب ((منار الأشراف)) وملقب نفسه ((كليب الهامل))، والهامل قرية بالحضنة قرب أبي سعادة بها زاوية كانت تمدّه بالمال.فحضرتُ مجلسهُ ولم أشعره بحضوري إذ كان قد اجتمع عليه العمى والصمم. وذلك لئلا يحترز في حديثه أو نقع في حديث غير مناسب للمقام.سمعت في ذلك المجلس بأذني ((كليب الهامل)) يحكي مناقضا لدعوة الإصلاح التي اشتهرت يومئذ، أنّ شيخا من شيوخ الطرق الصوفية كان مع مريديه في سفينة فهاج بهم البحر وعلت أمواجه، فلجأوا جميعا إلى الله يسألون الفرج والسلامة.وكان الشيخ منفردا في غرفة يدعو فلم تنفرج الأزمة، وعادته أن لا يبطأ عليه بالإجابة، فوقع في روعه أنّه أتي من قبل أتباعه. لا لنقص فيه يوجب هذا الإعراض عنه.فخرج على أتباعه مغضبا يقول: ((ماذا صنعتم في هذه الشدّة ؟)) فقالوا: ((دعونا الله مخلصين له الدّين بلسان المضطرّين)) إشارة لقوله تعالى: ((أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)) فنكّر عليهم اللجوء إلى الله مباشرة ووبخهم عليه وعرّفهم أنّ ذلك هو الحائل دون استجابة دعائه، وأنذرهم عاقبة استمرارهم على التوجّه إلى ربّهم، وأنّه الغرق وعلّمهم أنّ واجبهم هو التوجّه إليه وسؤاله ثمّ هو وحده يتوجّه إلى الله، فتابوا من دعاء الموحدين وامتثلوا تعليم الشيخ المخالف لتعليم ربّ العالمين. وعاد الشيخ إلى غرفته يدعو متوسطا بين الله وبين مريديه، فانكشفت الغمّة وسلمت السفينة، وحمد الشيخ ثقته بنفسه وفقهه سرّ البطء عن استجابة دعائه، وتفقيهه لأتباعه سرّ النّجاة وصرفهم إلى الثقة به عن الثقة بالله.هذا معنى ما سمعته من كليب الهامل، ولم أقيّد الحكاية حين السماع حتى أؤدّيها بلفظها وأصوّرها بنصّها، ولم يسعني وأنا في مقام التحذير من الشرك اجتناب إدراج ما ينافي غرض الحاكي في الحكاية حتى تتم ثمّ أعلّق عليها، لئلا يعلق بذهن القارئ شيء من الشرك ولو إلى حين، ولم أميّز المدرج في الحكاية، لأنّه لا يخفى على العارف بحال المعارضين لدعاة الإصلاح الديني.يستدل الشيخ عاشور وأتباعه بأمثال هذه الحكاية على لزوم التعلّق بشيوخ الزوايا وتوسيطهم بين العباد وربّهم، ناسخين بها نصوص الشريعة الكثيرة المحكمة وتتلقّفها منهم العامّة بقلوبها وتتمسّك بها في الاحتجاج لإيثار دعاء غير الله، وتعتقد أنّ ذلك أليقُ بحالها من أن تُخاطب بنفسها أرحم الراحمين، سنّة المشركين من قديم كما تقدّم عن الكلدانيين.إعراض المبتدعين عن محكم الكتاب وصحيح السنّة:
والحكاية العاشورية تدلُّ على أنّ معتقدها أحطّ فكرا وأقبح جهلا وأبعدُ كفرا من مشركي العرب الذين يخلصون الدعاء لله في حال الشدّة واضطراب الموج.ولم يزل من يعظ النّاس بنحو تلك الحكاية ويغرس في القلوب ضريب تلك العقيدة، ولا يرجعون في تمحيص ذلك إلى الكتاب والسنّة، فإن اضطروا إليهما تمسّكوا بمتشابه الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وبضعيف الحديث المتداعي والموضوع الذي لا تحلُّ روايته إلا للتحذير منه وتلك عادة المبتدعين، من قديم لا يعنون بمحكم الذكر وصحيح الأثر، ولكن بالحكايات المختلقات والأضاليل الملفّقات.فإن نصح لهم ناصح رموه بخبال في الرأي أو ضلال في الفهم أو زيغ في العقد لا عن حجّة وبيان ولكن ثقة بالذين يصدّقونهم في كلّ بهتان.قال تعالى: ((قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون)) ، ((ففرّوا إلى الله إنّي لكم منه نذير مبين)) ، ((ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إنّي لكم منه نذير مبين كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصو به بل هم قوم طاغون، فتولّ عنهم فما أنت بملوم، وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين)).(الشرك ومظاهره ص 195-198) غلوّ العامّة في التوسّل بالجاه:
وقد غلب الجهل بالدين وضعفت الثقة برب العالمين واعتد النّاس من سمّوهم أولياء صالحين وعوّلوا على التوسُّل بهم في قضاء مطالبهم، وغالوا في اعتباره وتشددوا في التمسّك به، وبادروا إلى الإنكار على من أراد بيان المشروع منه لهم.ولم تزل مسألة الوسيلة حديث المجالس منذ أزمنة طذويلة فضبطناها ضبطا يقربها من مُتناول العامّة عسى أن يخفضوا من غلوائهم ويرجعوا إلى السنن المشروع في توسّلهم ويهتدوا إلى الحقّ في دعائهم، فيعبُدوا ربّهم بما شرع لهم ويتّبعوا الرسول فيما سنّ لهم. ((ومن يُطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ ألئك رفيقا)) شركُ القبوريين والطرقيين:
((إنّ الرزيّة كلّ الرزية والبلية كلّ البلية، أمر غير ما ذكرنا من التوسُّل المجرّد والتشفُّع بمن له شفاعة. وذلك ما صار يعتقدهُ كثيرٌ من العوام وبعض الخواص في أهل القبور وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء من أنّهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله، جلّ جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عزّ وجلّ حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم. فصاروا يدعونهم تارة مع الله وتارة استقلالا، ويصرخون بأسمائهم ويعظمونهم تعظيم من يملك الضرّ والنّفع، ويخضعون لهم خضوعا زائدا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربّهم في الصلاة والدُّعاء.وهذا إذا لم يكن شركاً فلا ندري ما هو الشرك ؟ وإذا لم يكن كُفرا فليس في الدُّنيا كُفرٌ)) (ص155) (1)الطريق إلى الشفاعة:
أيُّها المُسلمُ اتّبع القرآن فيما أرشدكَ إليه يشفع لك عند الله.ولا تحد عن سنّة رسول الله تشملك –إن شاء الله- شفاعته.ولا تقنط من رحمة الله وترجو رحمة سواه، فإنّه أرحم الراحمين: ((يا أيُّها النّاس قد جائتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصدور وهُدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير ممّا يجمعون)).(1) (صيانة الإنسان نقلا عن الشوكاني)(الشرك ومظاهره ص227-228)قطعُ السلف لاتخاذ المزارات:
وقد علمت الحكم في البناء على القبور وحكمته. وأجمع الصحابة على العمل به. فلمم يبنوا على الأمكنة التي جلس فيها الرسول في أسفاره في الحج والعمرة والغزو، وهم عالمون بها وشديدو الحب له. ولم ينوطوا بشجرة الرضوان ولا غيرها خيوطا وخرقا ولا وضعوا تحتها مباخر ومصابيح، ولا قبّلوا غير الحجر الأسود أو تمسّحوا بشيء من غير أركان البيت. بل نهى أمير المؤمنين ومحدّثُ هذه الأمّة عمر بن الخطّاب عن تعمُّد العدول إلى موضع سجوده صلى الله عليه وسلّم في طريق المدينة إلى مكّة. وقطع شجرة الرضوان، وبيّن وجه تقبيله للحجر الأسود كما تقدّم في الفصل الحادي عشر.